فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونرى بلادًا تحيا على أمطار دائمة تغذي الأرض، فنجد الخضرة تكسو الجبال ولا نجد شبرًا واحدًا دون خصوبة أو خضرة أو شجر، وقد يظن ظان أن هذه المسألة أمر آلي، ويأتي الحق ليجري على هذه المنطقة قدر الجفاف فيمنع المطر وتصير الأرض الخصبة إلى جدب، وتنفق وتهلك الماشية ويموت البشر عطشًا، وذلك ليلفتنا الحق إلى أن المسألة غير آلية ولكنها مرادات مُريد.
وفي موقع آخر من الكرة الأرضية نجد أرضًا منبسطة هادئة يعلوها جبل جميل، وفجأة تتحول قمة الجبل إلى فوهة بركان تلقي الحمم وتقذف بالنّار وتجري الناس لتنقذ نفسها، ولذلك علينا أن نعرف أن عقل العاقل إنما يتجلى في أن يختار مراداته بما يتفق مع مرادات الله، وعلى سبيل المثال.. لم يؤت العقل البشري القدرة الذاتية على التنبؤ بالزلازل، لكن الحمار يملك هذه القدرة.
{وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} وصدر الآية بالمقولة نفسها: {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وذلك لتثبيت وتأكيد ضرورة الطاعة لمنهج الله حتى ينسجم الإنسان مع الكون. وتجيء المقولة مرة ثانية في الآية نفسها ليثبت الحق أنه غنيّ، ولا تقل إن المقولة تكررت أكثر من مرة في الآية الواحدة، ولكن قل: إن الحق جاء بها في صدر الآية لتثبت المعنى، وجاءت في ذيل الآية لتثبت معنى آخر، فسبحانه هو الغني عن العباد: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]
ومجيء {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} لإثبات حيثية أن يطيع العبد خالقه. ومجيء {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} في ذيل الآية لإثبات حيثية غنى الله عن كل العباد. والمقولة نفسها تأتي في الآية التالية حيث يقول سبحانه: {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ...} اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {مِنْ قَبْلِكُم} فيه وجهان:
الأول: أنه مُتَعَلِّق بـ {وصَّيْنَا} يعني: ولقد وصَّيْنَا من قَبْلكُم الذين أُوتُواْ الكتاب.
والثاني: أنه متعلِّق بـ {أوتُوا} يَعْني: الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ، وصيناهم بذلك، والأوَّل أظْهَر.
قوله: {وإيَّاكم}: عَطْف على {الذين أُوتُواْ الكتاب} وهو واجبُ الفَصْل هُنَا؛ لتعذُّرِ الاتِّصَال، واستدلَّ بَعْضُهم على أنَّه إذا قُدِر عَلى الضمير المُتَّصِل يجُوز أَن يُعْدَلَ إلى المُنْفَصِل بهذه الآية؛ لأنه كان يُمْكِنُ أن يُقَال: {ولقد وَصِّيْنَاكُم والَّذِين أوتُوا الكِتاب}، وكذلك استُدِلَّ بقوله تعالى: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1]، إذ يمكن أن يُقَالَ: يخرجُونَكُم والرَّسُولَ، وهذا ليس يدلّ له:
أمَّا الآيةُ الأولى: فلأنَّ الكَلامَ فيها جَاءَ على التَّرتِيب الوُجُودِي، فإنَّ وَصِيَّة مَنْ قبلَنا قبلَ وَصيَّتنا، فلمَّا قَصَدَ هذا المَعْنَى، استحال- والحالةُ هذه- أن يقُدْرَ عليه مُتَّصِلًا.
وأما الآية الثَّانية: فلأنَّه قصد فيها تَقَدُّمَ ذِكْرِ الرَّسُول؛ تشريفًا له، وتشنيعًا على مَنْ تَجاسَر على مِثْلِ ذلك الفِعْل الفَظِيع، فاسْتَحَال- والحالة هذه- أن يُجَاء به مُتَّصِلًا، و{مِنْ قبلكم}: يَجُوزُ أنْ يتعلَّق بـ {أوتُوا}، ويجُوز أنْ يتعلَّق بـ {وَصَّيْنَا}؛ والأولُ أظهرُ.
قوله: {أن اتَّقُوا} يجوزُ في {أن} وَجْهَان:
أحدُهُمَا: أن تكون مصدرِيّة على حَذْفِ حَرْفِ الخَفْضِ، تقديرُه: بأن اتَّقوا، فلما حُذِف الحَرْفُ جَرَى فيها الخِلافُ المَشْهُور.
والثاني: أن تكُون المُفَسِّرة؛ لأنها بَعْد ما هُو بِمَعْنَى القَوْل، لا حروفه وهو الوصيّة، والظاهر أن قوله: {وإن تَكْفُرُوا} جملة مُسْتأنفة؛ للإخبار بأن هذه الحَالِ ليست داخلة في مَعْمُول الوصِيّة.
وقال الزَّمَخْشَرِي: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ} عطفٌ على {اتَّقُوا} لأنَّ المَعْنَى: أمرناهم، وأمَرْنَاكم بالتَّقْوَى، وقُلْنا لهم ولكم: {إِن تَكْفُرُواْ} وفي كلامه نظرٌ، لأنَّ تقديره القَوْلَ، ينفي كون الجُمْلة الشرطية مُنْدرجةً في حَيِّزِ الوصيَّة بالنِّسْبَة إلى الصِّناعة النَّحْوية، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط، بل قصده هو وتفسير الإعراب؛ بدليل قوله: عطف على {اتَّقُوا}، و{اتَّقُوا} داخلٌ في حيِّز الوصيَّةِ، سواءً أجعلت {أن} مصدريَّةً أم مُفسِّرة.
قوله: {فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي} في تعلُّقِه وجهان:
الأول: أنه تعالى خالقُهُم ومالِكُهُم، والمُنْعِم عليهم بأصْناف النِّعَم كلِّها، فَحَقَّ على كل عَاقلٍ أن يَنْقَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيهِ، ويَرْجُوا ثوابه، ويَخَاف عِقَابَهُ.
والثاني: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} من أصناف المَخْلُوقات من الملائِكَة وغيرها أطوع مِنْكُم يَعْبُدوه ويتَّقُوه، وهو مع ذَلِكَ غَنِيٌّ عن عِبَادَتِهم، و{حَمِيدًا} مُسْتَحِقٌّ للحَمْد؛ لكثرة نِعمِه، وإن لم يحمده أحَدٌ منهم؛ لأنه في ذَاتِه مَحْمُود، سواء حَمَدُوه أوْ لَمْ يَحْمَدُوه. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (132):

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الملك قد لا يمنع الاعتراض على المالك بين أن ذلك إنما هو في الملك الناقص وأنه ملكه تام: {ولله} أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {ما في السماوات} وأكد لمثل ما مضى فقال: {وما في الأرض} أي هو قائم بمصالح ذلك كله، يستقل بجميع أمره، لا معترض عليه، بل هما وكل من فيهما مظهر العجز عن أمره، معلق مقاليد نفسه وأحواله إليه طوعًا أو كرهًا، فهو وكيل على كل ذلك فاعل به ما يفعل الوكيل من الأخذ والقبض والبسط، ولمثل ذلك كرر الاسم الأعظم فقال: {وكفى بالله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {وكيلًا} أي قائمًا بالمصالح قاهرًا متفردًا بجميع الأمور، قادرًا على جميع المقدور، وقد بان- كما ترى- أن جملة {لله} المكررة ثلاث مرات ذكرت كل مرة دليلًا على شيء غير الذي قبله وكررت، لأن الدليل الواحد إذا كان دالًا على مدلولات كثيرة يحسن أن يستدل به على كل واحد منها.
وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرة واحدة، لأن عند إعادته يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل؛ وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أن هذا الدليل دال على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر، فيجتهد السامع في التفكر لإظهار الأسرار والاستدلال عل صفات الكمال لأن الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله تعالى إلى الاستغراق في معرفته سبحانه، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، فكان في غاية الحسن والكمال. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

{وَللَّهِ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض} يحتمل أن يكون كلامًا مبتدأ مسوقًا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقًا وملكًا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادًا وإعدامًا وإحياءًا وإماتة، ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدًا {وكفى بالله وَكِيلًا} تذييل لما قبله، والوكيل هو القيم والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه، وهذا على الإطلاق هو الله تعالى، وفي «النهاية» يقال: «وكَّل فلان فلانًا إذا استكفاه أمره ثقة (بكفايته) أو عجزًا عن القيام بأمر نفسه، والوكيل في أسماء الله تعالى هو القيم (الكفيل) بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقل (بالأمر) الموكول إليه»، ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم، وتوكل على الله تعالى، وادعى البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه: {يُغْنِ الله كُلًا مّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغني لأن من توكل على الله عز وجل كفاه، ولما كان ما بينهما تقريرًا له لم يعد فاصلًا، ولا يخفى أن على بعده لا حاجة إليه. اهـ.

.قال القرطبي:

إن قال قائل: ما فائدة هذا التكرير؟ فعنه جوابان: أحدهما أنه كرر تأكيدًا؛ ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه وأنه غني عن العالمين.
الجواب الثاني أنه كرر لفوائد: فأخبر في الأوّل أن الله تعالى يغني كلا من سعته، لأن له ما في السموات وما في الأرض فلا تنفذ خزائنه. اهـ.

.قال الخازن:

فإن قلت ما الفائدة في تكرير قوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض} قلت الفائدة في ذلك أن لكل آية معنى تخص به، أما الآية الأولى فمعناها فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو يوصيكم بتقوى الله فاقبلوا وصيته وقيل لما قال تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلًا من سعته} بيّن أن له ما في السموات وما في الأرض وأنه قادر على إغناء جميع الخلائق وهو المستغني عنهم.
وأما الآية الثانية فإنه تعالى قال: {وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض} والمراد أنه تعالى منزه عن طاعات الطائعين وعن ذنوب المذنبين وأنه لا يزداد جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي.
وقيل لما بين أن له ما في السموات وما في الأرض وقال بعد ذلك: {وكان الله غنيًا حميدًا} فالمراد منه أنه تعالى هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون فهو يعطيكم لأن له ما في السموات وما في الأرض.
وأما الثالثة فقال تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} أي فتوكلوا عليه ولا تتوكلوا على غيره فإنه المالك لما في السموات والأرض.
وقيل تكريرها تعديدها لما هو موجب تقواه لتتقوه وتطيعوه ولا تعصوه لأن التقوى والخشية أصل كل خير. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقال الراغب: الأول: للتسلية عما فات.
والثاني: أنّ وصيته لرحمته لا لحاجة، وأنهم إن كفروه لا يضروه شيئًا.
والثالث: دلالته على كونه غنيًا.
وقال مكي: نبهنا أولًا على ملكه وسعته.
وثانيًا على حاجتنا إليه وغناه، وثالثًا على حفظه لنا وعلمه بتدبيرنا. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن عاشور:

قد تكرّرت جملة {ولله ما في السماوات وما في الأرض} هنا ثلاث مرّات متتاليات متّحدة لفظًا ومعنى أصليًا، ومختلفة الأغراض الكنائية المقصودة منها، وسبقتها جملة نظيرتهنّ: وهي ما تقدّم من قوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكلّ شيء محيطًا} [النساء: 126].
فحصل تكرارها أربع مرات في كلام متناسق.
فأمّا الأولى السابقة فهي واقعة موقع التعليل لجملة {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116]، ولقوله: {ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا} [النساء: 116]، والتذييلِ لهما، والاحتراس لجملة {واتّخذ الله إبراهيم خليلًا} [النساء: 125]، كما ذكرناه آنفًا.
وأما الثانية التي بعدها فواقعة موقع التعليل لجملة {يغني الله كلاَّ من سعته}.
وأما الثالثة التي تليها فهي علّة للجواب المحذوف، وهو جواب قوله: {وإن تكفروا}؛ فالتقدير: وإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن تقواكم وإيمانكم فإنّ له ما في السماوات وما في الأرض وكان ولا يزال غنيًّا حميدًا.
وأمّا الرابعة التي تليها فعاطفة على مقدّر معطوف على جواب الشرط تقديره: وإن تكفروا بالله وبرسوله فإنّ الله وكيل عليكم ووكيل عن رسوله وكفى بالله وكيلًا. اهـ